فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا}.
في الكلام حذف، أي إلى جنة الرحمن، ودار كرامته.
كقوله: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] وكما في الخبر: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» والوفد اسم للوافدين، كما يقال: صَوْم وفَطْر وزَوْر؛ فهو جمع الوافد، مثل رَكْب وراكب وصَحْب وصاحب، وهو من وفد يفد وَفْدًا ووفودًا ووفِادة، إذا خرج إلى ملك في فتح أو أمر خطير.
الجوهري: يقال وفد فلان على الأمير، أي ورد رسولًا فهو وافد، والجمع وفد مثل صاحب وصَحْب، وجمع الوفد وِفاد ووفود، والاسم الوِفادة وأوفدته أنا إلى الأمير، أي أرسلته.
وفي التفسير: {وفدًا} أي ركبانًا على نجائب طاعتهم.
وهذا لأن الوافد في الغالب يكون راكبًا، والوفد الركبان ووحد؛ لأنه مصدر.
ابن جريج: وفدا على النجائب.
وقال عمرو بن قيس الْمُلاَئي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيب ريح، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك.
فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا أنا عملك الصالح، طالما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم، وتلا {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا} وإن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتن ريح، فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قبح صورتك وأنتن ريحك.
فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا أنا عملك السّييء طالما ركبتني في الدنيا وأنا اليوم أركبك.
وتلا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31].
ولا يصح من قِبل إسناده.
قاله ابن العربي في (سراج المريدين).
وذكر هذا الخبر في تفسيره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، عن ابن عباس بلفظه ومعناه.
وقال أيضًا عن ابن عباس: من كان يحب ركوب الخيل وفد إلى الله تعالى على خيل لا تَرُوث ولا تَبول، لجمها من الياقوت الأحمر، ومن الزبرجد الأخضر، ومن الدر الأبيض، وسروجها من السندس والاستبرق، ومن كان يحب ركوب الإبل فعلى نجائب لا تَبْعَر ولا تبول، أزمتها من الياقوت والزبرجد، ومن كان يحب ركوب السفن فعلى سفن من زبرجد وياقوت، قد أمنوا الغرق، وأمنوا الأهوال.
وقال أيضًا عن علي رضي الله عنه: ولما نزلت الآية قال علي رضي الله عنه: يا رسول الله إني قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أر وفدًا إلا ركبانًا فما وفد الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنهم لا يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقًا ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم ينظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وزمامها الزبرجد فيركبونها حتى يقرعوا باب الجنة» ولفظ الثعلبي في هذا الخبر عن عليّ أبين.
وقال عليّ لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله! إني رأيت الملوك ووفودهم فلم أر وفدًا إلا ركبانًا.
قال: «يا عليّ إذا كان المنصرَف من بين يدي الله تعالى تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمتها الذهب على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا فيلبس كل مؤمن حلة ثم تسير بهم مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ}».
قلت: وهذا الخبر ينص على أنهم لا يركبون ولا يلبسون إلا من الموقف، وأما إذا خرجوا من القبور فمشاةً حُفاةً عُراة غُرلًا إلى الموقف؛ بدليل حديث ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله تعالى حُفَاةً عُرَاة غُرْلًا» الحديث. خرجه البخاري ومسلم، وسيأتي بكماله في سورة (المؤمنون) إن شاء الله تعالى. وتقدّم في (آل عمران) من حديث عبد الله بن أنيس بمعناه والحمد لله تعالى. ولا يبعد أن تحصل الحالتان للسعداء، فيكون حديث ابن عباس مخصوصًا؛ والله أعلم.
وقال أبو هريرة: {وفدًا} على الإبل.
ابن عباس: ركبانًا يؤتون بنوق من الجنة؛ عليها رحائل من الذهب وسروجها وأزمتها من الزبرجد فيحشرون عليها.
وقال عليّ: ما يحشرون والله على أرجلهم، ولكن على نوق رحالها من ذهب، ونجب سروجها يواقيت، إن هَمُّوا بها سارت وإن حركوها طارت.
وقيل: يفدون على ما يحبون من إبل أو خيل أو سفن، على ما تقدّم عن ابن عباس.
والله أعلم.
وقيل: إنما قال: {وفدًا} لأن من شأن الوفود عند العرب أن يقدموا بالبِشارات، وينتظرون الجوائز، فالمتقون ينتظرون العطاء والثواب.
{وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا} السوق الحثّ على السير.
و{وِردا} عِطاشا؛ قاله ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهما والحسن والأخفش والفراء وابن الأعرابي: حفاة مشاة.
وقيل: أفرادًا.
وقال الأزهري: أي مشاة عِطاشا، كالإبل ترد الماء؛ فيقال: جاء وِرد بني فلان.
القشيري: وقوله: {وِردًا} يدل على العطش؛ لأن الماء إنما يورد في الغالب للعطش.
وفي (التفسير): مشاة عِطاشًا تتقطع أعناقهم من العطش، وإذا كان سوق المجرمين إلى النار فحشر المتقين إلى الجنة.
وقيل: {وِردا} أي الورود؛ كقولك: جئتك إكرامًا لك أي لإكرامك، أي نسوقهم لورود النار.
قلت: ولا تناقض بين هذه الأقوال، فيساقون عِطاشًا حفاة مشاة أفرادًا.
قال ابن عرفة: الوِرد القوم يردون الماء، فسمي العطاش وردًا لطلبهم ورود الماء؛ كما تقول: قوم صَوْم أي صيام، وقوم زَوْر أي زوّار، فهو اسم على لفظ المصدر، واحدهم وارد.
والوِرد أيضًا الجماعة التي ترد الماء من طير وإبل.
والورد الماء الذي يوردُ.
وهذا من باب الإيماء بالشيء إلى الشيء.
والورد الجزء (من القرآن) يقال: قرأت وِردي.
والوِرد يوم الحمى إذا أخذت صاحبها لوقت.
فظاهره لفظ مشترك.
وقال الشاعر يصف قَلِيبا:
يَطْمو إذا الوِرْدُ عليه الْتَكَّا

أي الورّاد الذين يريدون الماء.
قوله تعالى: {لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة} أي هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} وهم المسلمون فيملكون الشفاعة، فهو استثناء الشيء من غير جنسه؛ أي لكن {من اتخذ عِند الرحمنِ عهدًا} يشفع؛ ف {من} في موضع نصب على هذا.
وقيل: هو في موضع رفع على البدل من الواو في {يملكون}؛ أي لا يملك أحد عند الله الشفاعة {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} فإنه يملك؛ وعلى هذا يكون الاستثناء متصلًا.
و{المجرمين} في قوله: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا} يعم الكفرة والعصاة، ثم أخبر أنهم لا يملكون الشفاعة إلا العصاة المؤمنون، فإنهم يملكونها بأن يشفع فيهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فيقول: يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي» خرجه مسلم بمعناه، وقد تقدّم.
وتظاهرت الأخبار بأن أهل الفضل والعلم والصلاح يشفعون فيُشفَّعون؛ وعلى القول الأول يكون الكلام متصلًا بقوله: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} فلا تقبل غدًا شفاعة عبدة الأصنام لأحد، ولا شفاعة الأصنام لأحد، ولا يملكون شفاعة أحد لهم؛ أي لا تنفعهم شفاعة؛ كما قال: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدثر: 48].
وقيل: أي نحشر المتقين والمجرمين ولا يملك أحد شفاعة {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} أي إذا أذن له الله في الشفاعة.
كما قال: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وهذ العهد هو الذي قال: {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} وهو لفظ جامع للإيمان وجميع الأعمال الصالحة التي يصل بها صاحبها إلى حيز من يشفع.
وقال ابن عباس: العهد لا إله إلا الله.
وقال مقاتل وابن عباس أيضًا: لا يشفع إلا من شهد أن لا إله إلا الله، وتبرأ من الحول والقوَّة لله، ولا يرجو إلا الله تعالى.
وقال ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدًا» قيل: يا رسول الله وما ذاك؟ قال: «يقول عند كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدًا عبدك ورسولك (فلا تكلني إلى نفسي) فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقرِّبني من الشر وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدًا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعًا ووضعها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند الله عهد فيقوم فيدخل الجنة». اهـ.

.قال أبو حيان:

وعدى {نحشر} بإلى {الرحمن} تعظيمًا لهم وتشريفًا.
وذكر صفة الرحمانية التي خصهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر، فجاءت لفظة {الرحمن} مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم، ولفظ السوق فيه إزعاج وهو إن عدِّي بإلى جهنم تفظيعًا لهم وتبشيعًا لحال مقرهم.
ولفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عنده.
وعن عليّ: على نوق رحالها ذهب، وعلى نجائب سرجها ياقوت.
وعنه أيضًا إنهم يجيئون ركبانًا على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها من ياقوت وزبرجد.
وروى عمرو بن قيس الملائي أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن، روى أنه يركب كل أحد منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم.
والظاهر أن هذه الوفادة بعد انقضاء الحساب وأنها النهوض إلى الجنة كما قال: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} وشبهوا بالوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلًا وليست وفادة حقيقية لأنها تتضمن الإنصراف من الموفود عليه، وهؤلاء مقيمون أبدًا في ثواب ربهم وهو الجنة والورد العطاش قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن، والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء.
قال الراجز:
ردي ردي ورد قطاة صمًا ** كدرية أعجبها برد الماء

ولما كان من يرد الماء لا يرده إلاّ لعطش، أطلق الورد على العطاش تسمية للشيء بسببه.
وقرأ الحسن والجحدري يحشر المتقون ويساق المجرمون مبنيًا للمفعول، والضمير في {لا يملكون} عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه، والاستثناء متصل و{من} بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء {ولا يملكون} استئناف إخبار.
وقيل: موضه نصب على الحال من الضمير في {لا يملكون} ويكون عائدًا على المجرمين.
والمعنى غير مالكين أن يشفع لهم، ويكون على هذا الاستثناء منقطعًا.
وقيل: الضمير في {لا يملكون} عائد على المتقين والمجرمين، والاستثناء متصل.
وقيل: عائد على المتقين، واتخاذ العهد هو العمل الصالح الذي يحصل به في حيِّز من يشفع.
وتظافرت الأحاديث على أن أهل العلم والصلاح يشفعون فيشفعون.
وفي الحديث: «إن في أمتي رجلًا يدخل الله بشفاعته أكثر من بني تميم» وقال قتادة: كنا نحدث أن الشهيد يشفع في سبعين.
وقال بعض من جعل الضمير للمتقين: المعنى لا يملك المتقون {الشفاعة} إلاّ لهذا الصنف، فعلى هذا يكون من اتخذ المشفوع فيهم، وعلى التأويل الأول يكون من اتخذ الشافعين فالتقدير على التقدير الثاني {لا يملكون الشفاعة لأحد إلاّ من اتخذ} فيكون في موضع نصب كما قال:
فلم ينج إلاّ جفن سيف ومئزرا

أي لم ينج شيء إلا جفن سيف.
وعلى هذه الأقوال الواو ضمير.
وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون يعني الواو في {لا يملكون} علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث، والفاعل من {اتخذ} لأنه في معنى الجمع انتهى.
ولا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرًا.
وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة.
وأيضًا قالوا: والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلًا إلاّ بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف، إما أن تأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى، والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر، ولكن الأحفظ أن لا يقال ذلك إلاّ بسماع.
وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب يعني من على تقدير حذف المضاف أي إلاّ شفاعة من {اتخذ}.
والعهد هنا.
قال ابن عباس: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله.
وفي الحديث: «من قال: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله كان له عند الله عهد» وقال السدي: العهد الطاعة.
وقال ابن جريج: العمل الصالح.
وقال الليث: حفظ كتاب الله.
وقيل: عهد الله إذنه لمن شاء في الشفاعة من عهد الأمير إلى فلان بكذا، أي أمره به أي لا يشفع إلاّ المأمور بالشفاعة المأذون له فيها.
ويؤيده {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن} {لا تغني شفاعتهم شيئًا إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة ثم أخبر أنهم {لا يملكون الشفاعة} إلاّ العصاة المؤمنون فإنهم سيشفع فيهم، فيكون الاستثناء متصلًا.
وفي الحديث: «لا أزال أشفع حتى أقول يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلاّ الله، فيقول: يا محمد إنها ليست لك ولكنها لي» انتهى.
وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد.
وقال ابن عطية أيضًا: ويحتمل أن يراد بمن اتخذ محمد عليه الصلاة والسلام وبالشفاعة الخاصة لمحمد العامة للناس.
وقوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} والضمير في {لا يملكون} لأهل الموقف انتهى.
وفيه بعض تلخيص. اهـ.